تأويل النُّصوص بين الصّحّة و الفساد

اذهب الى الأسفل

تأويل النُّصوص بين الصّحّة و الفساد Empty تأويل النُّصوص بين الصّحّة و الفساد

مُساهمة من طرف Admin الخميس نوفمبر 17, 2016 6:40 pm


تأويل النُّصوص بين الصّحّة و الفساد

أحمد الله حمدا كثيرا طيّبا مُباركا، و أُصلّي و أُسلّم على سيّد الخلق أجمعين؛ سيّدي و حبيبي و مولاي مُحمّد، و على آله و صحبه و من والاه، ثمّ أمّا بعد:

فالتّأويل في اللُّغة يُطلق على معنيين، هُما:
1- ما تؤول إليه حقيقة الأمر في ثاني حال، جاء في القُرآن: (ذلك خيرٌ و أحسنُ تأويلا ) (النّساء / 59، و الإسراء / 35). و (هل ينظرون إلّا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الّذين نسوه من قبلُ قد جاءت رسل ربّنا بالحقّ) الأعراف / 53.
2-ـ التّفسير، و منه قول الإمام ابن جرير الطّبري: القول في تأويل قوله تعالى: كذا، أي تفسيره.

أمّا التّأويل عند الأُصوليين هُو صرف اللّفظ عن ظاهره المُتبادر منه إلى مُحتمل مرجوح لدليل. و له ثلاث حالات مشهورة، هي:

1- صرف اللّفظ عن ظاهره المُتبادر منه لدليل صحيح من الكتاب أو السُّنّة، و هذا النّوع من التّأويل مقبول باتّفاق، و أشهر مثال عند الأُصوليين في ذلك حديث النّبيّ (صلّى الله عليه و سلّم): (الجار أحقّ بصَقبة)(1) ، فظاهر الحديث ثُبوت الشُّفعة للجار، لكنّ الأُصوليين حملوه على الشّريك المُقاسم، لحديث جابر (رضي الله عنه): (فإذا ضُربت الحُدود و صُرفت الطُّرق فلا شُفعة) (2)، فهذا النّوع من صرف اللّفظ عن ظاهره المُتبادر منه لدليل صحيح، يجب الاحتكام إليه، من الكتاب و السُّنّة، يُسمّى عند الأُصوليين تأويلاً صحيحًا.

2- صرف اللّفظ عن ظاهره المُتبادر منه لأمر يراه المُجتهد دليلاً يجب الاحتكام إليه، و قد يكون هذا الدّليل صحيحًا و مُعتبرا، فُيقبل تأويله؛ لأنّه تبع للحالة الأُولى، و قد يكون صحيحا و غير مُعتبر، فيُسمّى تأويلا فاسدا، كصرف آيات الصّفات عن ظواهرها إلى مُحتملات غير صحيحة أو فاسدة، كقول الأشاعرة استوى بمعنى استولى(3) ، و قد يكون غير صحيح أصلا، فيُسمّى حينئذ بالتّأويل البعيد. و أمثلة هذا النّوع من التّأويل موجودة في كُتب المذاهب الفقهيّة، منها تأويل الإمام أبي حنيفة (رحمه الله) لفظ امرأة في حديث النّبيّ (صلّى الله عليه و سلّم): (أيّما امرأة نكحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل...)(4) .
قال أهل الأصول: (حمل الإمام أبو حنيفة لفظ امرأة على خُصوص المُكاتبة، و هو حمل لغير دليل جازم يجب الرّجوع إليه.) اهـ. و منها أيضا حمل (لا صيام لمن لم يُبيّت الصّيام من اللّيل(5) ) على النّذر و القضاء. و قد قال أهل العلم خلاف ذلك ؛ إذ قرّروا: لا صيام (أي لم يُجزه) لمن لم يُجمع الصّيام قبل طُلوع الفجر في رمضان، أو في قضاء رمضان، أو في صيام نذر ؛ إذا لم ينوه من اللّيل، و أمّا في التّطوّع فمُباح له أن ينويه بعد الصُّبح. و الله أعلى و أعلم.
و قد تقرّر عند عُلماء السّلف أنّه لا يجوز صرف شيء من كتاب الله و سُنّة رسوله (صلّى الله عليه و سلّم) عن ظاهره المُتبادر منه إلّا لدليل صحيح مُعتبر يجب الرُّجوع (الاحتكام) إليه.

3- صرف اللّفظ عن ظاهره المُتبادر منه لا لدليل، و يُصطلح عليه عند الموثوقين من أهل الأصول، باللّعب بظواهر النُّصوص، و يُمثّلون على ذلك بتأويل غُلاة الرّوافض لفظ بقرة، في قول الله تعالى: (إنّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) (البقرة / 67)، أنّها عائشة (رضي الله عنها) .
قال أهل العلم: (هذا لا يدخل في إسم التّأويل لأنّه لا دليل عليه من الكتاب و السُّنّة، إنّما هو تلاعب بالنُّصوص.) اهـ، و قال آخرون: (هو تهجّم على ظواهر النُّصوص.) اهـ
و بالله التوفيق. و صلّى الله و سلّم على سيّدنا مُحمّد و على آله و صحبه جميعا.

هوامش
1 ـ رواه أحمد و أبو داود والتّرمذي و ابن ماجة و الدّارمي . 2 ـ رواه أحمد و البُخاري .
3ـ هُنا ضميمة يُستحسن ذكرها، و هي أنّ تأويل الأسماء و الصّفات ، ليس من عمل الصّحابة ، و لا من عمل التّابعين الكبار المشهود لهم بالخيريّة، و لا من عمل تابعيهم من الأئمّة المجتهدين، كأبي حنيفة و مالك و الشّافعي و أحمد ( رضي الله عنهم جميعًا )، إنّما هو من عمل أهل الكلام ، و من سار على نهجهم . و الأصل في الأسماء و الصّفات إثباتها لِلّه وحده على الوجه اللّائق به سُبحانه ، من غير تحريف و لا تعطيل و لا تكييف و لا تمثيل و لا تفويض ، عملا بقوله عزّ و جلّ : ( لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) ( الشّورى / 11 ) ، كما قرّره غير واحد من علماء السُّنّة الأثبات . وقد جعل بعض أهل العلم التّوحيد نوعين ؛ و أدخل توحيد الأسماء و الصّفات في توحيد الرُّبوبية، و لا مُشاحة في ذلك ، لأنّ المقصود واضح من ذلك . و الله أعلى وأعلم .
4 ـ رواه أحمد و أبو داود والتّرمذي و ابن ماجة و صحّحه ابن حبّان و الحاكم .
5 ـ رواه مالك و أحمد و أبو داود و النّسائي و التّرمذي و البيهقيو الدّارمي و الدّارقطني و اللّفظ له ، و صحّحه العلّامة الألباني في صحيح التّرمذي ( 583 ) ( عن حفصة أمّ المُؤمنين رضي الله عنها ) . و قد وقع خلاف بين أهل العلم في مسألة : هل يجب أن تعزم نيّة الصّوم الصّيامَ قبل طلوع الفجر؟ ... فذهب الجمهور و منهم الشّافعي و أحمد و إسحاق بن راهويه ، و غيرهم ، إلى أنّه يجب على الصّائم أن ينوي الصّوم قبل الفجر ، ولا يصحّ له الصّوم بنيّة من النّهار ، هذا في صوم الفريضة ( الواجب ) ؛ عملا بعُموم حديث أمّ المُؤمنين حفصة ( رضي الله عنها ) ، أنّ النّبيّ ( صلّى الله عليه و سلّم) قال : ( من لم يُبيّت الصّيام قبل الفجر فلا صيام له ) ، الّذي رواه الخمسة وغيرهم . أما في النّفل منه ، فلا يَشترط ذلك ، و لا بأس أن ينوي من النّهار ، و ذلك عملا بخصوص حديث أمّ المُؤمنين عائشة ( رضي الله عنها ) قالت : دخل عليّ النّبيّ ( صلّى الله عليه و سلّم ) ذات يوم، فقال : ( هل عندكم شيءٌ ؟ . فقُلنا : لا ؛ قال : ( فإنّي إذاً صائم ) ، ثمّ أتانا يوما آخر ، فقُلنا : يا رسول الله ( صلّى الله عليه و سلّم ) : أُهدي لنا حيسٌ ، فقال : ( أرينيه ، فلقد أصبحت صائما ، فأكل .) رواه مُسلم . و وجه الدّلالة منه ؛ قوله ( صلّى الله عليه و سلّم ) : ( فإنّي إذاً صائم ) . و ذهب مالك و المُزني من أصحاب الشّافعي و داوود و ابن حزم الظّاهريان و الشّوكاني من المُتأخّرين ، وغيرهم ، أنّه يجب تبييت النّيّة من اللّيل قبل الفجر، في صيام الفرض أو النّفل؛ عملا بجمع الرّوايات الحديثيّة الصّحيحة ؛ فقد جاء في رواية أخرى لحديث عائشة (رضي الله عنها ) ، عند مُسلم : ( قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ( صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) ذَاتَ يَوْمٍ يَاعَائِشَةُ : ( هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ ؟ . قَالَتْ : فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ( صلّى الله عليه و سلّم ) مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ ، قَالَ : فَإِنِّي صَائِمٌ ، قَالَتْ : فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ( صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ ) ، فَأُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ ، أَوْ جَاءَنَا زَوْرٌ ، قَالَتْ : فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ ( صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ( صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ ) أُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ ، أَوْ جَاءَنَا زَوْرٌ ، وَقَدْ خَبَأْتُ لَكَ شَيْئًا ، قَالَ : مَا هُوَ ؟ قُلْتُ: حَيْسٌ ، قَالَ : هَاتِيهِ ، فَجِئْتُ بِهِ ، فَأَكَلَ ، ثُمَّ قَالَ : قَدْ كُنْتُ أَصْبَحْتُ صَائِمًا . و في رواية للنّسائي Sad فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ( صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ ) :دَخَلْتَ عَلَيَّ وَ أَنْتَ صَائِمٌ ، ثُمَّ أَكَلْتَ حَيْسًا ! قَالَ : نَعَمْ يَا عَائِشَةُ ، إِنَّمَا مَنْزِلَةُ مَنْ صَامَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ ، أَوْغَيْرِ قَضَاءِ رَمَضَانَ ، أَوْ فِي التَّطَوُّعِ ، بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ أَخْرَجَ صَدَقَةَ مَالِهِ فَجَادَ مِنْهَا بِمَا شَاءَ فَأَمْضَاهُ ، وَبَخِلَ مِنْهَا بِمَا بَقِيَ فَأَمْسَكَهُ .) . فقوله ( صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ ) ( كُنت قد أصبحت صائما ) ، أو ( فلقد أصبحت صائما ) يدلّ على أن معنى قوله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ ) الّذي جاء عند مُسلم في الرّواية الأُولى ( فإنّي إذا صائم ) أنّه مُستمر في نيّة الصّوم الّتي بيّتها من اللّيل . و رُدّعليهم في هذه ، أنّ حرف ( إذاً ) من حُروف الاستقبال ، فظاهره أنّه ( صلّى الله عليه و سلّم ) أقام نيّة الصّوم من حين سُؤاله لعائشة ( رضي الله عنها ) . و الله أعلى و أعلم . و ذهب الأحناف إلى أنّ صوم الفريضة يصحّ بنيّة مُطلقة من بعد غُروب الشّمس إلى مُنتصف النّهار ، و أنّ صوم النّافلة لا يجب فيه تبييت النّيّة من اللّيل . و ذهب عطاء بن أبي رباح و مُجاهد بن جبر من التّابعين ، و زُفر بن الهُذيل من أصحاب أبي حنيفة ، إلى أنّ صوم رمضان في حقّ المُقيم جائز بدون نيّة ، و في النّفل من باب أولى . و الله أعلى و أعلم.


و كتب أبو مُحمّد سعيد هرماس

Admin
Admin

المساهمات : 2275
تاريخ التسجيل : 12/11/2016

https://theparadise-road.ahlamontada.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى