الإمام الشّاطبي و البدع

... أبو إسحاق إبراهيم بن مُوسى الغِرناطي، الشّهير بالشّاطبي، العلّامة المُؤلِّف المُحقّق، النّظّار، أحد الجهابذة الأخيار، كان له القَدَم الرّاسخ في سائر الفُنون و المعارف، أحد العُلماء الأثبات، و أكابر الأئمّة الثِّقات، الفقيه الأُصوليّ المُفسِّر المُحدِّث، له استنباطات جليلة، و فوائد لطيفة، و أبحاث شريفة، مع الصّلاح و العفّة و الورع و اتباع السُّنّة و اجتناب البدع (1). اهـ. هكذا وصفه صاحب الشّجرة، و هُو كما وصف ؛ فالشّاطبي قمينٌ بهذا الوصف و أكثر، و قد عُرف عند الأُصوليين و الفقهاء و المُهتمّين لتاريخ الفقه الإسلامي و تشريعه، بمُؤسِّس علم المقاصد ؛ فقد ألُفت في ذلك كُتبٌ و أبحاثٌ قديمة و مُعاصرة، منها المطبوع، و منها المخطوط، من أشهرها و أوسعها كتاب نظريّة المقاصد عند الإمام الشّاطبي للدُّكتور أحمد الرّيسوني المغربي (حفظه الله)، و هو كتاب جليل القدر عميم النّفع.

لكنّ الشّيء الّذي غُفل و غُمط و لم يأخذ حقّه في البحث و الدّراسة، و الّذي اُشتهر به الشّاطبي على غرار غيره من أهل العلم الّذين سبقوه أو عاصروه أو جاءوا بعده ؛ هو اهتمامه بمُحاربة البدع و الحوادث و إحياء السُّنّة و الذّود عنها، فقد جاء (رحمه الله) في وقت كثرت فيه البدع و مُسوّغاتها، و نُبذت فيه السُّنّة و عمل السّلف في القُرون المُفضّلة بصريح النّص، و هو نفس الوقت (2)ــ تقريبا ــ الّذي عاش فيه ابن تيميّة (قدّس الله رُوحه و أنار ضريحه) المُتوفّى سنة 728 هـ، و تلميذه ابن قيّم الجوزيّة المُتوفّى 751 هـ، و الشّاطبي تُوفي سنة 790 هـ، و زمنهم هذا كثر فيه التّعصّب المقيت، و التّقليد الأعمى، و الابتعاد عن الأدلّة المعصومة (3)، و فساد المناهج و انحراف العقائد، و كثرة المذاهب و الطّوائف، كُلّ هذه الحوادث تلوّت بالسّلب على التّشريع الإسلامي، و بخاصّة الفقهي منه.

و الشّيء الّذي يُنكر بشدّة هو ما يحدث في هذا العصر الّذي نعيشه ؛ إذْ يتمسك الكثيرون من العُلماء و الباحثين في المجال الفقهي، بدراسة جانب واحد من جوانب هذه الشّخصية العلميّة الفذّة الذائعة الصِّيت، و الاقتصار عليه، و إهمال الجوانب الأخرى الّتي عُرف بها، و كان له فيها اجتهادات و آراء سويّة، و بالأخصّ منها جانب موقفه من البدع و الحوادث، الّتي ابتليت بها الأمّة الإسلاميّة، و قد يكون الجانب الأهمّ و الأنسب في هذا العصر؛ لأنّ مُحاربة البدع و المُخالفات الشّرعيّة، ضرورة شرعيّة كبيرة، و بها تحيا السُّنّة، و السُّنّة هي الشّريعة كما قال الآجرّي (رحمه الله).

لكنّ فساد المنهج و الّذي اُبتلي به الكثير من أهل العلم حال دُون ذلك، و اُقتصر على الجانب الّذي يُؤيّد منهجهم و استنباطاتهم، و هذا أمر خطير و خفيّ، لذا يجب على العُلماء الحقيقيين تدارك هذا الأمر، و مُعالجته مُعالجة علميّة فكريّة، وفق أدلّة و قواعد، و أبعاد زمانيّة و مكانيّة، كما عالج ابن تيميّة و ابن القيّم و الشّاطبي و غيرهم، هذه المسائل، في وقتهم و عصرهم و مصرهم ؛ لأنّ فقه الواقع و معرفة المُلائم منه أمرٌ أساسيٌّ و مهمٌّ، للعالم الفقيه ؛ فتجد طريقة ابن تيميّة في مُحاربة البدع و الحوادث تختلف عن طريقة تلميذه ابن القيّم، و ذلك لاختلاف الزّمان، و تجدها تختلف عن طريقة الشّاطبي، و ذلك لاختلاف المكان، زيادة على أنّ الإمام الشّاطبي تميّز عنهما بالتّنظيم؛ فقد ألّف كتابه "الاعتصام "، و هو كتاب في غاية الإجادة و الإفادة، بيّن فيه المنهج الإسلامي الصّحيح، و ردّ كلّ البدع و الضّلالات الّتي خالفت السُّنن و مدارك(4) الصّحابة و التّابعين، و هذا الّذي ميّزه عن غيره، و بسبب موقفه هذا أيضا كانت له مُشكلات مع ابن لُبّ و القبّاب و الفشتالي و ابن عرفة، و كُلّهم من أئمّة المالكيّة الّذين جايلوه.

و الحال تدعونا اليوم و بإلحاح إلى دراسة جديدة لهذا الكتاب، و لهذه الشّخصيّة العلميّة الرّائعة. و أمّا الشّيخان ابن تيميّة و ابن القيّم فتجد رُدودهما و إنكارهما للبدع مبثوثًا بين ثنايا كُتبهم و رسائلهم و فتاواهم لا في كتاب مُعيّن.

و صلّى الله و سلّم على سيّدي و مولاي و حبيبي و شفيعي يوم القيامة مُحمّد و على آله الطّيّبين وصحابته الكرام الميامين.

هوامش
1 ـ شجرة النُّور الزّكيّة في طبقات المالكيّة لمُحمّد مخلوف ( رحمه الله ) ، الجُزء الأوّل، ص 231 ، طبع دارالكتاب العربي ، بيروت ، لبنان .
2 ـالمُراد به العصر .
3 ـ و هي الكتاب و السُّنّة و الإجماع إذا وقع . و الله أعلى وأعلم .
4 ـ و هي ما يُعبّر عنه عند الأُصوليين بانتفاء المدرك ، و هو أمر مُهمّ في مُعالجة الأحكام الشّرعيّة .